العناوين الرئيسية

جاءني سؤال على ask يقول: هل رؤيتنا محبوسة في إطار لغتنا؟ فقلت: نعم بدرجة كبيرة تٌعتبر الرؤية محبوسة في اطار اللغة .كيف هذا؟

اللغة والوصف

اللغة عملية متواصلة من “الوصف”, بمعنى أن الشيء يكون موجودا في الواقع, وله العديد من السمات, ويختلف البشر في أي وصف يعطونه للشيء أو للدور.
على سبيل المثال العرب يسمون من يحيك الملابس ب: الخياط (لأنهم ركزوا على جزئية خياطة الملابس, المرحلة الأخيرة في الحياكة)بينما الألمان يسمونه “القصاص”, لأنهم ركزوا على الدور الأطول والأصعب وهو عملية القص

بالعربية نسميها: المستشفى, وبالألمانية “بيت المرضى”! فنحن نركز على الغاية بينما هم وصفوا بالواقع!
بالعربية نسميه: مُسكّن, بالألمانية: مادة الألم! فنلاحظ أن العرب في الغالب عند التسمية يسمون تبعاً للغاية أو للمرحلة النهائية, بينما الألمان مثلا يسمون تبعا للواقع وربما للمراحل الأولى!
كما أن العربية لديها ثراء كبير في المفردات, فاليونان وإن كانوا أبدعوا فلسفة, فالعرب أبدعوا لسانا لا مثيل له في العالم كله! فلدينا المفردات التي تصف كل مرحلة وكل حال وكل حركة وصوت وفعل!

فمن ذلك مثلا وصفنا للإنسان في مرحلة عمرية معينة بأنه مراهق! لما في طبعه من عناد وإجهاد وحب للتميز والاستقلال عن سلطة الوالدين والمجتمع بشكل عام! بينما لم يجد الانجليز مثلا -أصحاب المفردات القليلة, والعائلة اللغوية اللزقية اللصقية- إلا أن يسموه: Teenager(الإنسان الذي له عمر ينتهي ب teen; يعني من 13 ل 19)

هل الرؤية محبوسة في إطار اللغة؟

مفردات اللغة ودورها في الرؤية

وبطبيعة الحال فإن الجزء الأكبر من أي لغة هو موروث عن السابقين, فنحن نستخدم مفردات الأجيال السابقة لنا بزمن, ونسير على دربهم في إنشاء مفردات جديدة! ونادرة هي المفردات الجديدة التي نولدها وننشأها!

فبقدر ثراء مفرداتك الشخصية أنت, التي اكتسبتها وتشربتها من لغتك, سيكون منظورك للعالم أوسع وأدق, لأن لديك مفردات مختلفة تصف كل جزء من اليوم (في العربية 24 اسم ل 24 ساعة في اليوم) ومفردات لأصوات مضغ الطعام المختلفة .. الخ, ومن ثم ستكون ذا أفق أرحب وكذلك دقيق في أحكامك.

بينما إذا كنت لغتك الشخصية ضيقة قليلة المفردات, فبطبيعة الحال سيكون تفكيرك “سبهللة”, قائم على التعميم وإطلاق الأحكام, فكما أن الكلمة ستصدق على الشيء ص و ع و ل, فكذلك ما يُفعل لكذا يمكن أن يُفعل لكذا!
يعني عندنا في العربية مثلا كلمة: مسند! نستخدمها حاليا نحن لكل ما يُسند عليه, بينما الألمان يحددون, فيقولون: مسند الذراع, مسند الظهر, مسند كذا وكذا
حتى يعرف المستمع عن ماذا بالضبط أتحدث!ودقة الألمان في حياتهم راجعة بدرجة كبيرة إلى دقة مفرداتهم, وعندما نتعلم كيف نستخدم أكبر قدر ممكن من مفردات اللغة العربية ونفلح في إدخالها في قاموس حياتنا اليومية سيختلف واقعنا وأسلوب حياتنا وتعاملنا بدرجة كبيرة!

اكتساب الأفكار والتربية

ولكن أعود فأقول:

اللغة تلعب دورا هاما, ولكن لا يعني هذا أن نُغفل منظومة الأفكار التي يُلقنها الإنسان أو يكتسبها, وكذلك عملية التربية التي تعرض لها, ومنظومة القيم المجتمعية العامة, ومنظومته القيمية الخاص المتشكلة عبر سنين حياته وعبر تجاربه العديدة التي مر بها, فهي كلها تلعب دورا كبيرا في تكوين رؤية موازية للعالم, قد تنسجم مع الرؤية الناتجة لا شعوريا عن إطار اللغة وأوصافها, وقد لا ينسجم!
ولكن هما في النهاية متواجدان في دخيلة كل منا, ويتجادلان فيما بينهما, فأحيانا يكون لهذا قصب السبق والتوجيه وأحيانا يكون لذاك, لهذا لا يُمكنني أن أقبل بحال “الجبرية اللغوية”, كما لا أقبل بحال الجبرية البيولوجية وغيرها من الجبريات التي يروج لها أنصار كل توجه علمي بحماسة منقطعة النظير . وجهل منقطع المثيل!

وأختم فأقول: أعتقد أن القراءة في الفلسفة جد مفيدة, لتقليل سطوة اللغة على الإنسان, فهي تعطيه قدرة على تصور الأمور والأشياء خارج إطار اللغة وخارج التصورات والتقييمات المجتمعية السائدة ..

شارك على مواقع التواصل
Share on facebook
Share on twitter
Share on linkedin
Share on pinterest
Share on print
Share on email
مقالات شبيهة